المسيح وسعة صدره وطول أناته
للمتنيح الأنبا غريغوريوس
يلزم المعلم,كل معلم,أن يكون واسع الصدر,رحب العقل,طويل الأناة,لا يبرم بتلاميذه,ولا يتضجر من أسئلتهم,ولا يغضب من بطء فهمهم أو ضحالة إدراكهم أو ضيق أفقهم,ولا تزعجه أسئلتهم مهما كانت تافهة أو سخيفة أو ممجوجة,أو متكررة,وإنما يصغي في اهتمام وحنان ويعالج مشكلاتهم وإشكالاتهم بروح الأبوة والعطف,ويتقبل أخطاءهم عاذرا لهم مقدرا لظروفهم,متوقعا المزيد منها من دون أن يسخط عليهم أو يلعنهم.هكذا كان المسيح المعلم الأعظم من نحو تلاميذه الأخصاء الذين اختصهم برعايته,بل نحو جميع الناس الذين كان يفتقدهم ويعلمهم ويمشي بينهم.خذ مثلا علي سعة صدره وطول أناته أنه إذا رأي تلاميذه عاجزين عن فهم قصده في تعليمه كان يعمد إلي إعادة الشرح بتفصيل أكثر وإيضاح أعظم,إشفاقا عليهم من الحيرة وسوء الفهم.قالوا له مرة:يا معلم قم تناول الطعام فقال لهم:إن لي طعاما آكله لا تعرفونه أنتم.فقال تلاميذه فيما بينهم:ألعل أحدا جاءه بما يأكل؟ فلم يشأ أن يتركهم حياري في فهم قصده,فقال علي الفور:إن طعامي هو أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني وأنجز عمله (يوحنا4:31-34).قال لتلاميذه في ليلة آلامه:بعد قليل لا ترونني,ثم بعد قليل أيضا ترونني,لأنني منطلق إلي أبي...فقال بعض تلاميذه فيما بينهم:ما هذا الذي يقوله لنا:بعد قليل لا ترونني,ثم بعد قليل أيضا ترونني,ولأنني منطلق إلي أبي؟ ثم قالوا:ما هذا القليل الذي يتكلم عنه؟ إننا لا ندري ماذا يقول؟ فعلم يسوع أنهم يريدون أن يسألوه,فقال لهم:أعن هذا تتساءلون فيما بينكم,إذ قلت لكم بعد قليل لا ترونني ثم بعد قليل أيضا ترونني؟ الحق الحق أقول لكم إنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح.أنتم ستحزنون ولكن حزنكم سيتحول إلي فرح.فالمرأة وهي تلد تحزن لأن ساعتها قد جاءت,ولكنها متي ولدت الطفل لا تعود تذكر ما كانت فيه من شدة,لفرحها بإنها ولدت إنسانا في العالم.هكذا أنتم الآن محزونون,ولكنني سأعود فأراكم فتفرح قلوبكم (يوحنا16:16-22) فلم يغضب السيد المعلم لبطء فهمهم لتعليم سبق فعلمهم به,بل ترفق بهم,وأراح نفوسهم,وأجاب حتي علي تساؤلهم الذي لم يصرحوا به له,بل كانوا يتدارسونه فيما بينهم.ولما قام المسيح من بين الأموات وظهر لتلاميذه في عشية ذلك اليوم الذي قام فيه,وهو الأحد,ودخل إليهم في العلية التي كانوا مجتمعين فيها وقد أغلقوا من دونهم أبوابها خوفا من اليهود,وأراهم يديه وجنبه,ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب.وأما توما أحد الاثني عشر تلميذا,فلم يكن حاضرا في ذلك الوقت,فلما عاد إلي زملائه وأخبروه بأنهم رأوا الرب يسوع لم يصدق بل تجاسر,فقال لهم:إن لم أبصر في يديه أثر المسامير,وأضع في موضع المسامير إصبعي,وأضع يدي في جنبه,لا أؤمن,فلم يهمل الرب يسوع تلميذه الشاك,ولم يتركه في غباوة عدم الإيمان,ولم يغضب من تصرفه فيدعه لأفكاره وأوهامه بل ترفق به ثم بعد ثمانية أيام كان التلاميذ مجتمعين في الداخل أيضا,وكان توما معهم,فدخل يسوع والأبواب مغلقة,ووقف في وسطهم,وقال لهم:السلام لكم.ثم قال لتوما:هات إصبعك إلي هنا وأبصر يدي,وهات يدك وضعها في جنبي,ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا.فأجاب توما وقال له:ربي وإلهي.قال له يسوع:لأنك رأيتني ياتوما آمنت.طوبي للذين لم يروا وآمنوا (يوحنا20:19-29).ومن آيات سعة صدره,وطول أناته,احتماله لموقف بعض تلاميذه عندما كان بصدد معجزة إشباع الآلاف من خمس خبزات وسمكتين فرفع يسوع عينيه,ورأي جمعا عظيما مقبلا إليه.فقال لفيلبس:من أين نشتري خبزا ليأكل هؤلاء؟ وإنما قال هذا ليمتحنه,لأنه كان يعلم ما كان هو نفسه مزمعا أن يفعل ويبدو أن فيلبس قد رسب في الامتحان,ولم يجب الجواب الصحيح.فأجاب فيلبس قائلا:إن خبزا بمائتي دينار لا يكفي لينال كل واحد منهم قدرا ضئيلا.ولم يكن أندراوس خيرا من فيلبس,فأجاب إجابة خاطئة أو ناقصة,فبدلا من أن ينتبه إلي قدرة سيده ويضع الأمر بين يديه مؤمنا بأنه القادر علي كل شئ,غشيه اليأس مستندا إلي مقاييس العقل والمنطق البشري وقال له واحد من تلاميذه,وهو أندراوس:إن هنا غلاما معه خمس خبزات من الشعير وسمكتان.ولكن ما عسي أن تكون هذه بالنسبة لكل هذا الجمع؟ ومع هذا لم يغضب الرب علي تلميذيه لبلادتهما وقلة إيمانهما,بل ترفق بهما,وتقدم مباشرة ليصنع المعجزة الكبيرة فقال يسوع:اجعلوا الناس يجلسون فأكلوا كلهم وشبعوا ثم رفعوا من الكسر التي تبقت اثنتي عشرة قفة ممتلئة (يوحنا6:5-13),(متي14:13-21),(مرقس6:34-44),(لوقا9:12-17).هذا مثل أيضا علي طول أناة المعلم الأعظم,وصبره,وسعة صدره في معاملة تلاميذه.كذلك الأمر بالنسبة للجماهير,كان السيد المسيح يرفق بالناس ويشفق عليهم كأب,بكل أناة وصبر.ذهب تلاميذه مرة ليهيئوا له الدخول إلي إحدي قري السامريين,لكن أهلها لم يقبلوه,فلما رأي ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا,قالا له:يارب أتريد أن نطلب أن تنزل نار من السماء فتحرقهم كما فعل إيليا؟ فالتفت وانتهرهما قائلا:لستما تعلمان من أي روح أنتما لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك نفوس الناس بل ليحييها... (لوقا9:52-56).ومن آيات صبره واحتماله وسعة صدره وطول أناته,أنه في أثناء محاكمته أمام السلطتين الدينية والمدنية كان ساكتا ولم يجب بشئ علي الشتائم,والاتهامات التي اتهموه بها,ولم يدافع عن نفسه,وترك الشهود يتكلمون وهو لا يعترضهم,تركهم وهو صامت حتي نقض الواحد منهم ما قاله الآخر,فانهارت قيمة شهادتهم.وقد كان صمته مثيرا وعجيبا وغير متوقع...فوقف رئيس الكهنة في الوسط وسأل يسوع قائلا:أما تجيب بشئ؟ ما هذا الذي يشهد به أولئك عليك؟ ولكنه ظل صامتا,ولم يجب بشئ (مرقس14:61,60),(متي26:63,62).وكما كان صمته مثيرا أثناء محاكمته أمام السلطة الدينية,كذلك كان صمته مثيرا أثناء محاكمته أمام السلطة المدنية.وفيما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يوجهون الاتهامات إليه لم يكن يجيب بشئ.فقال له بيلاطس:أما تسمع كل هذا الذي يشهدون به عليك؟ فلم يجبه بكلمة حتي لقد دهش الوالي جدا (متي27:12-14),(مرقس15:3-5),وكذلك صنع المعلم العظيم وهو يحاكم أيضا أمام الملك هيرودس,فقد لاذ بصمت عجيب,ولم يجب بشئ عما اتهمه به رؤساء الكهنة,وقد سأله بكلام كثير,ولكنه لم يجبه بشئ.وكان رؤساء الكهنة والكتبة واقفين وقد أخذوا يتهمونه بعنف (لوقا23:10,9).وكذلك عندما صلبوه,استهزأوا به فلم يجبهم,عيروه فاحتملهم,تحدوه فلم يتحداهم وكان المارة يسبونه,وهم يهزون رؤوسهم,قائلين:يا هادم الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام,خلص نفسك,إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب.وكذلك رؤساء الكهنة كانوا يهزأون به مع الكتبة والشيوخ قائلين:خلص آخرين ولا يستطيع أن يخلص نفسه.إن كان هو ملك إسرائيل,فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به.لقد اتكل علي الله,فلينقذه الآن,إن كان راضيا عنه,لأنه قال أنا ابن الله.وبذلك أيضا كان يعيره اللصان اللذان صلبا معه (متي 27:39-44),(مرقس15:29-32),(لوقا23:35-39).وكذلك الجنود كانوا يسخرون منه,وقد دنوا منه وقدموا له خلا,قائلين له:إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك (لوقا23:37,36).وبدلا من أن يجيب علي استهزائهم أو يتحداهم كما تحدوه,رفع صوته يصلي من أجلهم فقال يسوع يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما هم فاعلون (لوقا23:34).هكذا يجب أن يكون كل معلم,واسع الصدر,حليما,طويل الأناة,صبورا,يعامل تلاميذه برفق,ينصت إليهم في اهتمام,ويسمع شكواهم ولا يسئ الظن بهم.يقبلهم علي ما هم عليه,ولا يتطلب منهم -وهم بعد في دور التملذة- أن يكونوا في قامة كاملة,وإنما يحنو عليهم مترفقا,ولا يحتقرهم أو يزدريهم إذا أخطأوا الهدف أو المرمي,بل يوجههم,ويقودهم,ويهديهم سواء السبيل,بعطف من غير ضعف.وإذا اضطر أحيانا إلي العنف,فليس عنفه بقسوة وتجبر وانتقام,ولكن عنفه منهج وطريق وأسلوب,عنف ممتزج بحب,ولطف,ورغبة في الخير والرشاد,فإذا أصاب الهدف ارتد إلي لين وحنان,وكشف مظهر العنف عن جوهر الرعاية والعناية والحب.
الأحد، فبراير ١٢، ٢٠٠٦
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق